Category: Uncategorized

  • الدين والفلسفة عند ابن رشد 

    :مقدمة

    لعب ابن رشد دورًا مؤثرًا في مسيرة الفكر البشري، ومن المؤكد أن قراءته للتراث الفلسفي الأرسطي ساهمت في بروز الكثير من الرؤى التي تخص مجتمعه الإسلامي. ومن أبرز هذه القضايا التي تناولها بالنقاش المستفيض وظهرت فيها المؤثرات الأرسطية وكذلك ظهر فيها تأثره بالفلاسفة المشائين هي قضية الفلسفة والدين، إذ يرى أن الفلسفة حق وأن الدين يوجبها ولا ينبغي أن يتم تكفير من يهتم بها، بل أبرز الحاجة الدينية لها. وتعتبر هذه القضية من القضايا الأساسية في الفلسفة الإسلامية، فابن رشد كغيره من فلاسفة الإسلام حاول أن يؤسس لتوفيقًا بينهما بيّن عبره أن الحكمة لا تناقض الشريعة. وبتأليفه لكتاب فصل المقال وتهافت التهافت يرد على الفقهاء وخصوصًا الغزالي الذي كفر الفلاسفة وحرم الاشتغال بالفلسفة باعتبار أنها تخرق الإجماع في المسائل الإلهية.

     هنا سأحاول أن أوضح؛ إلى أي مدى استطاع ابن رشد أن يوفق بين الحكمة والشريعة؟ وكيف يعالج مشكلة التعارض التي تظهر لنا أحيانًا بين ما ينتجه العقل البشري وبين النصوص الدينية؟ كما سأحاول أن أعرض بعض القضايا التي أهتم بها الفلاسفة المشائين ووافقهم فيها ابن رشد وهي القضايا الثلاث التي كفرهم فيها الغزالي.

    الدين يوجب التفلسف:

     عندما يتحدث ابن رشد عن أهمية الفلسفة بأنها لا تناقض الدين يتحدث من موقعة كفقيه عالمًا بالمعرفة الدينية، لذلك وانطلاقًا من النص الديني وعبر تفسيره لبعض الآيات القرآنية حاول أن يثبت وحدة الغاية الشرعية والعقلية، بمعنى آخر حاول أن ينتصر للفلسفة استنادًا للدين الذي يدعي بنظره إلى التفكر والتدبر. وبالتالي فهو يتحدث في إطار محاولته التوفيقية من وجهة نظر الشرع، وفي سبيل توضيح العلاقة بين الفلسفة والدين  يعطي ابن رشد تعريفًا محددًا للفلسفة يقول فيه أن: “فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع”[1]. فالفلسفة نظر في الموجودات من حيث هي دالة على الله ويقول أيضا “كان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات وحث على ذلك ويورد الآية (واعتبروا يا أولي الابصار)”[2]. بمعنى أن الدين يدعي إلى النظر والتفكر في الموجودات أيضًا،  وبالنسبة إليه يوجب هذا النص القرآني القياس العقلي، فالفلسفة نظر في الموجودات من حيث هي دالة على الصانع وهذا النظر دعا إليه الدين في أكثر من موضع، وبالتالي الغاية واحدة وهي الانطلاق من الموجودات والنظر فيها لإثبات أنها دالة على الله. والاعتبار بالنسبة إليه “ليس شيئًا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه وهذا هو القياس، أو بالقياس”[3]. فالاعتبار في الآية القرآنية يشمل القياس العقلي المنطقي الذي تدعي إليه الفلسفة، وبهذا يثبت شرعيًا أن الفلسفة لا تناقض الدين بل ما تفعله يقع في إطار ما دعا إليه الدين، فالشرع بالنسبة إليه حث على استخدام البرهان لمعرفة الله. ولكن يشترط في من يحاول أن يستخدم البرهان ليثبت وجود الله ضرورة معرفة أنواع البراهين” وكان من الأفضل أو الأمر الضروري لمن أراد أن يعلم الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات بالبرهان أن يتقدم أولا فيعلم أنواع البراهين وشروطها”[4]. فالمعرفة بالبرهان ضرورية من أجل استخدامه.

    إذا كانت الفلسفة هي النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع ألا يكفي الدين للقيام بهذه المهمة؟ معظم الفلاسفة في تاريخ الإسلام حاولوا إثبات وجود الله عقليًا عن طريق استخدام الفلسفة، وإن كانت أدلتهم توافق في نهايتها ما جاء به الدين. فهذه سمة نكاد نجدها عند جميع فلاسفة الإسلام وابن رشد ليس استثناء في هذا الأمر بل ظل يردد أهمية الفلسفة ودورها في إثبات وجود الله. تفسيري لهذه الظاهرة هو أن ابن رشد سعى إلى إثبات الصانع استنادًا للنظر العقلي حتى يصبح دليلًا لأهل البرهان الذين لا يقفون في ظاهر النصوص بل يسائلونها إلى أن تفصح عما هو غير ظاهر وهذا الأمر يتضح أكثر إذا نظرنا في تقسيم الناس عند ابن رشد إلى خاصة وعامة باعتبارهم مختلفين في الفطر والعقول، لذلك ما يحتاجه الخاصة من معارف وأدلة يختلف تمامًا عما يريد العامة معرفته. كما أن إصراره على أهمية الفلسفة يستند إلى اعتقاده بفائدة الفلسفة عمومًا وفلسفة ارسطو خصوصًا لذلك دعا إلى النظر في كتب القدماء التي نهى عنها الفقهاء واعتبروها بدعة، إذ نجده يقول “ينبغي أن نضرب بأيدينا في كتبهم (اي القدماء) ، فننظر فيما قالوه من ذلك ، فإن كان كله صواب قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبَّهنا عليه”[5] .

     هذا الاهتمام بكتب القدماء يثبت لنا من اتجاه آخر كيف أن ابن رشد مؤمن بأن هناك طرق متعددة لإدراك الحقيقية سواء كانت الفلسفية أو الدينية، فهو لم يتعامل مع الفلاسفة بالتكفير أو رفض ما أتوا به لأنهم مخالفين لنا في الملة بل تعامل معهم من ناحية أن طرقهم يمكن أن تؤدي بنا إلى معرفة الله وهذا ما أثبته (أي أن الفلسفة نظر في الموجودات من جهة دلالتها على الصانع). كما أن ابن رشد لم يكتف بذلك، فبالنسبة إليه؛ الدين لا يوجب فقط التفلسف باعتباره نظرًا في الموجودات والتفكر والتدبر فيها بل يوجب أيضًا النظر في كتب القدماء. فهو يقول “فقد تبين لنا من هذا أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع إذ كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثَّنا الشرع علية”[6]. كما أنه يشترط فيمن ينظر في كتب القدماء ذكاء الفطرة والعدالة الشرعية والفضيلة العلمية والخلقية. 

    التأويل:

    في سبيل همه الأكبر الذي يتمثل في وجود مكانة للفلسفة داخل الشرع اعتمد ابن رشد على التأويل، وبالنسبة إليه التأويل هو “إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يُخَلَّ في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي”[7] ومن خلال تعريفه لمفهوم التأويل يظهر لنا أهمية إلتزام المعقولية في استخدام ألفاظ اللغة العربية.

     وبالنسبة لابن رشد إذا أدى بنا البرهان إلى حقيقة تخالف ظاهر النصوص الدينية لا يعني هذا أن الفلسفة ضد الحقيقة الإلهية المنزلة، وهذا ما يتحدث عنه الفقهاء الذين يكفرون الفلاسفة؛ فهم ينطلقون من فرضية أن ما ينتج عن التفكير الفلسفي يتناقض مع حقيقة الشرع، وأبعد من ذلك يهدم الشرع، لذلك وجب تحريمه. لكن ابن رشد يتحدث عن أن التناقضات الظاهرة بين الدين والعقل بالإمكان القضاء عليها عبر وسيلة التأويل التي يستخدمها أهل البرهان، لأن هدف الفلسفة والدين واحد وكلاهما حق. فالدين يوجب التفلسف لأن هناك نصوص في الشريعة حتى ندرك معانيها نحتاج للتأويل، والفلاسفة وهم أصحاب البرهان يستطيعون تأويل ما هو باطني من النصوص الدينية التي تخالف في ظاهرها ما يعتقد به العقل البرهاني لأنهم يمتلكون قدرات معرفية وعقلانية تؤهلهم للقيام بهذه المهمة. وأهمية الفلاسفة تكمن في قدرتهم على إدراك معاني النصوص عن طريق التأويل فالشريعة لها ظاهر وباطن لأن الناس مختلفين في العقول والإدراك فليس كلهم على مستوى واحد في فهمهم لمقاصد الدين ولهذا يختلفون في فهمهم لما جاءت به الشريعة. ويقسم ابن رشد الناس إلى ثلاث أصناف “الخطابيون وهم الجمهور الغالب والذي يصدق بالأدلة الخطابية وأهل الجدل ومنهم رجال علم الكلام وهم لم يصلوا لأهل البرهان اليقيني وأخيرًا البرهانيون بطبعهم وبالحكمة التي أخذوا انفسهم بها”[8]. وهذا التقسيم للناس معناه أن هناك اختلاف في طريقة تلقي التعاليم التي ينبغي أن تؤمن بها كل فئة، فعلى حين أننا نجد أن الخطابيون يؤمنون بظواهر النصوص كما يعتقد ابن رشد فالبرهانيون يوكل إليهم مهمة تأويل ما لا يدرك إلا بالتأويل ونتيجة هذا الأمر لن تكون متناقضة؛ أي أن ما يؤمن به العوام والفلاسفة هو حقيقة واحدة باستخدامهم لطرق مختلفة لمعرفة هذه الحقيقة، فالعقل إذا أُحسن استخدامه لا يمكن أن يتناقض مع الشرع. لذلك ما يمكن أن يصل إليه الفلاسفة بطرقهم البرهانية لن يكون متناقضًا مع الشرع وإذا حدث التناقض وجب تأويل الشرع حتى ينتج التوفيق بينهما.

    أما فيما يخص ما يجوز تأويله وما لا يجوز تأويله فبالنسبة لابن رشد ليس كل النصوص الدينية تحتاج لتأويل فهناك معاني ظاهرة في الدين لا تحتاج إلى تأويل “أن ههنا ظاهرا من الشرع لا يجوز تأويله، فإن كان تأويله في المبادئ فهو كفر، وإن كان تأويله فيما بعد المبادئ فهو بدعة”[9]. وتتمثل هذه المبادئ التي لا يجوز تأويلها في البعث والحساب والإقرار بالله والنبوات بل يكفر من يقوم بتأويلها، كما أنه يحصر مهمة التأويل على الفلاسفة القادرون على النظر البرهاني.

      قدم ابن رشد نقدا للرؤى التي قدمها المتكلمين في عصره، وكان لنقده جانبين الأول: يتثمل في أنهم أخطأوا في تأويلهم للنصوص الدينية، والثاني: يتمثل في أنهم صرحوا بتلك التأويلات للجمهور فوقعت الخلافات، وأشهر هذه الفرق الأشعرية والمعتزلة والباطنية والحشوية إذ يكتب ابن رشد: “اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة وصرفت كثيرًا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها عن تلك الاعتقادات… وإذا تُؤُمَّلت جميعُها وتُوُمَّل مقصِدُ الشرع ظهر أن جلَّها أقاويل محدثة وتأويلات مبتدعة”[10] وهنا كأن اقتراح ابن رشد للتأويل هو محاولة تصحيحية لطرق التأويل التي استخدمها المتكلمين. 

    بين الغزالي وابن رشد:                                                                                                               

    الشكل العملي لمحاولة ابن رشد التوفيقية تمظهر في النقد الذي تقدم به للغزالي الذي كتب (تهافت الفلاسفة) وكفر فيه الفلاسفة (الفارابي وابن سينا) في ثلاث مسائل وهي قولهم بقدم العالم، وأن الله لا يعلم الجزئيات، وأن البعث للنفوس وليس الأجساد. يقول ابن رشد أن تكفير الغزالي للفلاسفة في هذه المسائل ليس لديه مبرر لأن هذه القضايا لا يمكن أن يتقرر فيها إجماع حتى يتم إتهام الفلاسفة السابقين بالخروج عنه، فهم تحدثوا في أمور لا يستوجب التكفير فيها. وهو يقول في مقدمة كتابة (تهافت التهافت) الذي ألفه كرد على كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة: “فإن الغرض في هذا القول أن نبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت لأبي حامد في التصديق والإقناع وقصور أكثرها عن مرتبة اليقين والبرهان”[11] فهو يقول أن أكثر ما قاله الغزالي عن ابن سينا والفارابي لا يبلغ مرتبة البرهان.                                                                                                                                                                              

    وأول هذه القضايا التي يمكن أن نتناولها بالنقاش هي مسألة قدم العالم أو حدوثه ومن المعلوم أن ابن سينا تأثرًا بأرسطو يقول باستحالة صدور الحادث عن القديم فحدوث العالم يستوجب أسئلة من نوع لماذا خلق الله العالم الآن (أي في فترة حدوثه) ولم يخلقه قبلًا ما دامت أحوال الله هي نفسها منذ الازل؟  أن “حدوث العالم يقتضي حدوث الإرادة وحدوث الإرادة يقتضي تغيير حال الأول أو تسلسلها إلى ما لا نهاية وكلاهما ممتنع”[12] فهذا أحد الأدلة التي يقدمها ابن سينا ويتحدث عنها لاحقًا فيلسوف قرطبة مع تعميق النقاش حولها بعد النقد الذي تقدم به الغزالي لهذه الحجة. وبالنسبة للمتكلمين عمومًا القول بأن العالم قديم يصعب من مهمة التدليل على صانعه، بالتالي يقولون بأنه حادث ومخلوق لله بعد أن لم يكن. والغزالي يدافع عن مسألة حدوث العالم انطلاقًا من نقده للأدلة التي تقول بقدم العالم ويقول “أن العالم حدث بإرادة قديمة، اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه”[13] بمعنى أن وجود العالم لا يعنى تغييرًا في إرادة الله القديمة، بالتالي إرادة خلق العالم قديمة والفعل حادث.

     أما بالنسبة لابن رشد فإن القول بحدوث العالم يقتضي حدوث حالة متجددة وتغييرًا في إرادة الله فيقول “والذي لا مخلص للأشعرية منه هو إنزال (افتراض)  فاعل قديم، وإنزال فعل له أول (قديم كذلك) لأنه لا يمكنهم أن يضعوا أن حالة الفاعل من المفعول المحدث تكون، في وقت الفعل، هي بعينها حالته في وقت عدم الفعل”[14] ويعنى هذا أن القول بوجود فاعل قديم بإرادته القديمة لابد أن يعني أن الفعل (أي فعله أو خلقه للعالم) أيضًا قديم، فالإرادة والفعل مقترنان بالنسبة لابن رشد، لأننا إذا قلنا بأن الله خلق العالم بفعل حادث وإرادة قديمة كما يقول الغزالي لابد أن يتضمن هذا القول تغييرًا في ذات الله أو المفعول (العالم) أو فيهما الإثنين، وهذا التغيير هو ما يريد أن ينفيه ابن رشد عن ذات الله القديم بإرادته وفعله القديمين. 

    المسألة الثانية والتي كفر فيها الغزالي الفلاسفة هي مسألة علم الله بالكليات، وبالنسبة للغزالي ينكر الفلاسفة علم الله بالجزئيات ويقولون أنه يعلم بالكليات فقط. وابن رشد يرى أن لا معنى لتكفير الفلاسفة في هذه المسألة، وينفي ما ينسبه الغزالي للمشائين من أنهم يقولون بأن الله لا يعلم الجزئيات ويقول ” أن أبا حامد قد غلط على الحكماء المشائين فيما ينسب إليهم من أنهم يقولون إنه تقدس تعالى لا يعلم الجزئيات أصلًا، بل يرون أنه يعلمها تعالى  بعلم غير مجانس لعلمنا بها وذلك أن علمنا بها معلول للمعلوم به وعلم الله سبحانه وتعالى عله للمعلوم الذي هو الموجود”[15]. فهو يرفض تشبيه علم الإنسان بعلم الله فالأول متغير ومحدث  أما علم الله غير متغير،  ولا معنى لوصف علم الله بأنه كلي أو جزئي، كما لا تجوز مقارنة علمه بعلمنا.

    المسألة الثالثة وهي مسألة الميعاد وكما رأينا سابقًا فيما يخص تقسيم ابن رشد لما ينبغي أن يؤول وما لا يؤول؛ يضع مسألة الميعاد كمبدأ من مبادئ الدين ولا يجوز تأويله، ولكن الاختلاف يكمن في صفات هذا الميعاد هل هو روحي أم جسدي؟ وبالنسبة للغزالي الميعاد سيكون روحيًا وجسمانيًا. وبالنسبة لابن رشد الشرائع والفلاسفة متفقين على أن هناك ميعاد وحياة أخرى. لكن الاختلاف في أحوال هذا الميعاد مما لا يجوز التكفير فيه حسب ابن رشد، وإذا أخطأ العلماء في تأويل أحوال الوجود أي في صفة الوجود لا في وجوده، فهم معذورون، وإذا أصابوا مشكورون. وطالما أن الفلاسفة يقولون بوجود حياة أخرى لا يوجد داعي لتكفيرهم بسبب الاختلاف في صورة هذه الحياة وصفاتها لأن هذه المسألة لا يوجد إجماع حولها.

                                                    المراجع والمصادر

    ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007، الطبعة الثالثة.

    ابن رشد، تهافت التهافت، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2008، الطبعة الثالثة.

    ابن رشد، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الإتصال، تحقيق الجابري، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007، الطبعة الرابعة.

    ماجد فخري، ابن رشد فيلسوف قرطبة، بيروت، دار المشرق، 1986، الطبعة الثانية.

    محمد يوسف موسى، بين الدين والفلسفة في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط، بيروت، العصر الحديث للنشر والتوزيع، 1988، الطبعة الثانية.


    [1] ابن رشد، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الإتصال، تحقيق الجابري (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007) الطبعة الرابعة، ص85

    [2] المرجع نفسه، ص86

    [3] المرجع نفسه، ص87

    [4] فصل المقال، المرجع السابق، ص87ــ88

    [5] المرجع نفسه، ص91

    [6] المرجع نفسه، ص93

    [7] فصل المقال، مرجع سابق، ص97

    [8] محمد يوسف موسى، بين الدين والفلسفة في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط (بيروت، العصر الحديث للنشر والتوزيع، 1988)، الطبعة الثانية، ص93

    [9] فصل المقال، مرجع سابق، ص111

    [10] ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007)، الطبعة الثالثة، ص100

    [11] ابن رشد، تهافت التهافت (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2008)، الطبعة الثالثة، ص105

    [12] ماجد فخري، ابن رشد فيلسوف قرطبة (بيروت، دار المشرق، 1986)، الطبعة الثانية، ص59ــ60

    [13] تهافت التهافت، مرجع سابق، ص113

    [14] المرجع نفسه، ص114

    [15] فصل المقال، مرجع سابق، 102ــ103

  • الأحكام اللازمة للسلطة

    :نظرية الإمامة عند الماوردي

    تمثّل الإمامة بحسب الماوردي (364-450) موضوعة لخلافة النبوة في حراسة أمر الدين وسياسة الدنيا. “وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم” (الماوردي، 1989:3). لكن وبحسب ما يكتب الماوردي، اختلف العلماء في وجوبها، هل يكون بالعقل أم الشرع؟ بمعنى آخر فإن السؤال هنا يتعلق بما الذي يوجب الإمامة، هل هناك نصوص شرعية توجب الإمامة ويتم الاستناد إليها في عملية تنصيب الإمام، أم أنها تجد مرجعيتها في العقل الذي يسعى من خلاله البشر إلى تدبير شؤونهم ويوجب عليهم تنظيم حياتهم، وبالتالي التسليم لزعيم يفصل في التظالم والتنازع والخصام بينهم؟ إن هناك طائفة تقول بوجوب الإمامة بالعقل. في الوقت نفسه يقول الماوردي أن هنالك طائفة أخرى قالت “بل وجبت بالشرع دون العقل، لأن الإمام يقوم بأمور شرعية قد كان مجوزا في العقل أن لا يرد التعبد بها، فلم يكن العقل موجبا لها، وإنما أوجب العقل أن يمنع كل واحد نفسه من العقلاء عن التظالم والتقاطع، ويأخذ بمقتضى العدل في التناصف والتواصل، فيتدبر بعقله لا بعقل غيره، ولكن جاء الشرع بتفويض الأمور إلى وليّه في الدين”(الماوردي، 1989:3). ويورد لتدعيم رأي هذه الطائفة قوله تعالى “يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم”. وبالتالي فإن هذه الطائفة تقول أن الله تعالى فرض على المسلمين طاعة ولى الأمر فيهم والأئمة المتأمرون عليهم. كما يورد الحديث المروي عن هشام بن عروة عن أبي صالح أبي هريرة: (سيليكم بعدي ولاة فيليكم البر ببره، ويليكم الفاجر بفجوره، فأسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق. فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم”(الماوردي، 1989:3).

     وينقسم الناس بصدد الإمامة إلى فريقان: أحدهما أهل الاختيار، وتكمن مهمتهم في اخيتار إماما للأمة، والثاني أهل الإمامة والذين يختار من بينهم الإمام. ويضع الماوردي مجموعة من الشروط الواجب توفرها في الفريقان. فإما أهل الاختيار فإن الشروط المعتبرة فيهم هي: “أحدهما: العدالة الجامعة لشروطها. والثاني: العلم الذي به يتوصل إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها. والثالث: الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح وبتدبير المصالح أقوم وأعرف”(الماوردي، 1989:4).

    أما أهل الإمامة فالشروط الواجبة فيهم سبعة وهي: “أحدهما العدالة على شروطها الجامعة. والثاني: العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام. والثالث: سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معهما مباشرة ما يدرك بها. والرابع سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض. والخامس: الرأي المُفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح. والسادس: الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة -البلاد- وجهاد العدو. والسابع: ]النسب وهو أن يكون[ من قريش لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه”(الماوردي، 1989:5). ويورد الماوردي احتجاج أبوبكر على الأنصار يوم السقيفة عندما بايعوا سعد بن عبادة بنص حديث النبي الذي قال فيه: “الأئمة من قريش”. كما يذكر حديث آخر للنبي وهو الذي يقول فيه (قدموا قريش ولا تقدموها) ويعقب بقوله: “وليس مع هذا النص المسلم شبهة لمنازع فيه ولا قول لمخالف له”(الماوردي، 1989:6).

    إن الإمامة تنعقد بطريقتين من وجهة نظر الماوردي: “أحدهما باختيار أهل العقد والحل. والثاني: بعهد الإمام من قبل”(الماوردي، 1989:6). واختلف العلماء في عدد الذين تنعقد بهم الإمامة، فقالت طائفة “لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل في كل بلد ليكون الرضا به عاما والتسليم لإمامته إجماعا، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر رضي الله عنه على الخلافة باختيار من حضرها ولم ينتظر بها قدوم غائب عنه”(الماوردي، 1989:6). وهناك طائفة قالت أن أقل من تنعقد بهم الإمامة خمسة، مستدلة بواقعتين: الأولى بيعة أبي بكر والتي اجتمع فيها خمسة وتابعهم بقية الناس. والثانية: إن الشورى التي سنها عمر بن الخطاب كانت في ستة، وحسب الماوردي فإن “هذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة” (الماوردي، 1989:6). وطائفة ثالثة قالت أن الإمامة تنعقد بثلاثة. كما قالت رابعة تنعقد بواحد “لأن العباس قال لعلي رضوان الله عليهم امدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله (ص) بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان، ولأنه حُكم، وحكم الواحد واحد نافذ”(الماوردي، 1989:7).

    من المهم أن ننتبه هنا إلى أمر أساسي ذكره الماوردي، إذ بالنسبة له فإن أهل العقد والحل وفي إطار تفحصهم لأحوال المتقدمين إلى الإمامة، فإنهم يجب أن يراعوا “أكثرهم فضلا وأكملهم شروطا ومن يسرع الناس إلى طاعته ولا يتوقفون عن بيعته” (الماوردي، 1989:7). في الوقت نفسه بالنسبة للماوردي لو تكافأ اثنان من المختارين في شروط الإمامة ولكن “أحدهما أعلم والآخر أشجع روعي في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت، فإن كانت (داعية) الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى لانتشار الثغور وظهور البغاة كان الأشجع أحق، وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى لسكون الدهماء وظهور أهل البدع كان الأعلم أحق”(الماوردي، 1989:8). وبالتالي، فإن الماوردي هنا يربط الإمامة نفسها بحكم الوقت وحال الحاضر، وليس مجرد مبادئ عامة ولا تاريخية تصلح لكل الأزمان.

    أما انعقاد الإمامة بواسطة اختيار الإمام نفسه وليس أهل العقد والحل، يذكر الماوردي إن هذا الأمر قد وقع الإجماع عليه والاتفاق حوله ومثاله على ذلك أن أبي بكر قد عهد بها إلى عمر، وأن عمر عهد بها إلى أهل الشورى. وبالتالي “فإن أراد الإمام أن يعهد بها فعليه أن يجتهد رأيه في الأحق بها والأقوم بشروطها، فإذا تعين له الاجتهاد في واحد نظر فيه، فإن لم يكن ولدا ولا والدا جاز أن ينفرد بعقد البيعة له وبتفويض العهد إليه، وإن لم يستشر فيه أحدا من أهل الاختيار”(الماوردي، 1989:11-12). ولكن اختلف  الناس حول، هل يكون رضى أهل الاختيار شرطا ضرووريا في انعقاد البيعة أم لا. إذ بحسب الماوردي، فإن بعض علماء البصرة قالوا بأهمية رضى أهل الاختيار، وبالتالي لا تصبح لازمة للامة إلا برضاهم. ولكن الصحيح وفقا للماوردي “أن بيعته منعقده وأن الرضى بيها غير معتبر، لأن بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقف على رضى الصحابة رضي الله عنهم”(الماوردي، 1989:12).

    “وإن كان ولي العهد ولدا أو والدا فقد اختلف في جواز انفراده بعقد البيعة له على ثلاث مذاهب. أحدهما: لا يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لولد حتى يشاور فيه أهل الاختيار فيرونه أهلا فيصح منه حينئذ عقد البيعة له (…) والمذهب الثاني: يجوز أن ينفرد بعقدها لولد ووالد (…) والمذهب الثالث: أنه يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لوالده ولا يجوز أن ينفرد بها لولده”( الماوردي، 1989:12).

    إن الأمور العامة التي تلزم الإمام بحسب ما يكتب لنا الماوردي عشرة وهي: “أحدها حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة وبين له الصواب وأخذه بما يلزمن من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروسا من خلل والأمة ممنوعة من زلل. والثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة. والثالث: حماية البيضة -البلاد- والذب عن الحريم لتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال. والرابع: إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك. والخامس: تحصين الثغور (…) والسادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله. والسابع جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير حيف ولا عسف. والثامن: تقدير العطايا (…) والتاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال. والعاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة”. 21-22 فإذا قام الإمام بتنفيذ هذه المهام، وجب على الناس طاعته ونصرته، ما لم يتغير حاله.

    واقع الخلافة في دولة ما بعد الخلفاء الراشدين:

    إن تصور الماوردي للإمامة يمثل في بعض جوانبه عرض لما يجب أن تكون عليه الإمامة، في حين أنه ركز أيضا على وصف أحوال الحكم كما حدثت في التاريخ الإسلامي إلى حدود العصر العباسي الذي عاش فيه. لكن السؤال هنا، هل يتطابق تصوره لما يجب أن يكون عليه الحكم مع واقع الخلافة خصوصا في دولة ما بعد الخلفاء الراشدين؟ من المؤكد أن مفهوم البيعة خضع لتحولات متعددة، على سبيل المثال، مات النبي عليه السلام ولم يعهد إلى أحد من بعده، أما أبوبكر فقد استخلف عمر، في حين أن عمر جعل الأمر شورى. وبالتالي فإن مسار البيعة نفسه أصبح متحولا ومتغيرا وفقا لأحوال التاريخ وضررويات الزمن. وهذا ما وضحه لنا الماوردي من خلال عرضه لآراء الطوائف المتعددة حول الخلافة. لكن أبرز هذه التحولات في مفهوم الخلافة هو ما دشنه معاوية بن أبي سفيان حينما عهد لابنه يزيد بالخلافة، وبل وعمل على ضمان بيعة كافة الأمصار لابنه. إن ما فعله معاوية هنا سنة جديدة، لم نعرفها من النبي ولا الخلفاء الراشدين من بعده. يورد الطبري: “وكان عهده الذي عهد به، ما ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني عبدالملك بن نوفل بن مساحق بن عبدالله بن مخرمة، أن معاوية لما مرض مرضته التي هلك فيها دعا يزيد ابنه، فقال له: يا بني، إني قد كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأشياء، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وجمعت لك من جمع واحد، وإني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي استتب لك إلا أربعة نفر من قريش: الحسين بن علي، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، وعبدالرحمن بن أبي بكر” (الطبري، 965). وبعد وفاة معاوية تمت البيعة ليزيد. ونجد أن بيعة يزيد قد صاحبها ما يمكن فهمه على أنه أسلوب تهديد للمعارضين، على سبيل المثال نجده يكتب بعد وفاة والده إلى الوليد بن عتبة “أما بعد، فخذ حسينا وعبدالله بن عمر وبن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام” (الطبري، 970).

    ويكتب الأندلسي أيضا في كتاب التاريخ “ولما أجمع معاوية على البيعة ليزيد ولده، واجتمع الناس لذلك، فأظهر قوم كراهة، قام رجل من عذرة فاخترط سيفه شبرا ثم قام على رأس معاوية فقال: (أمير المؤمنين هذا) وأشار إلى معاوية (فإن يمت هذا) وأشار إلى يزيد (فمن أبى فهذا) وأشار أو ضرب على قائم سيفه، فقال معاوية: (أقعد فأنت سيد الخطباء”(الأندلسي، 2008:130).

    أما العباسيون، فإن الحوادث التاريخية تؤكد أنهم قاموا بتأسيس تنظيم سري للقيام بثورة ضد الحكم الأموي، بموجبه استولوا على السلطة. واعتمدوا في ثورتهم تلك على استعمال أساليب دينية لتحقيق أغراضها السياسية، حيث أكدوا أنهم: “جاءوا للعمل بالكتاب والسنة وإلى الرضا من آل رسوله (ص) (….) وقد نُصح أبو مسلم الخراساني، أحد كبار قادة الثورة العباسية، أن يُعلنَ الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله والرضا من آل رسول الله (ص) والعمل بالحق والعدل، فأخذ بهذه النصيحة وبدأ بنفسه، فبايع على ذلك واستطاع أن يجمع الناس حوله مرة أخرى”(العبيدي، 2017: 91).

    ونتيجة لرؤية العباسين التي تؤكد أنهم أحق بميراث النبي، فقد اتجهوا “إلى الحكم المطلق الذي لا ينازعون في شيء منه، فقد أعلن أبوجعفر المنصور صراحة حقهم الإلهي في هذا الحكم نتيجة الوراثة النبوية، حينما قال في خطبة له ببغداد يوم عرفة: (أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلا، إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني”(العبيدي، 2017: 97-98).  

    “وهكذا صار الدين وسيلة وواجهة للأطماح السياسية في تثبيت أركان الدولة منذ بدء قيامها، حينما صرح داود بن علي في آخر خطبته عند بيعة أبي العباس السفاح بقوله: (فاعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى ابن مريم)”(العبيدي، 2017:98). 

    وعندما توترت العلاقة بين العباسيين والعلويين بعد الثورة التي قادها بها محمد النفس الزكية، انتصر أغلب علماء أهل الكوفة للعلويين ومنهم: “أبوحنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، الذي كان يحض الناس على الالتحاق بثورة إبراهيم”(العبيدي، 2017: 104-105). كما أفتى الإمام مالك بن أنس بالخروج مع محمد بن عبدالله بن الحسن: “قال: وحدثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبدالله بن الحكم ابن سنان الحكمي أخو الأنصار، قال: أخبرني غير واحد أن مالك بن أنس استفتى في الخروج مع محمد، وقيل له: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على كل مكره يمين. فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته” (الطبري، 560).

    “إن الدعوة العباسية، ومن أجل كسب أكبر عدد من الأنصار، قبلت بشكل أو بآخر، كثيرا من الحركات الغالية والمتطرفة المؤيدة لها، ومنها: الراوندية الذين قالوا بأن النبي (ص) قد نص على إمامة العباس بن عبدالمطلب من بعده، ثم إن العباس نص على ابنه عبدالله، ثم نص عبدالله على ابنه علي بن عبدالله، ثم ساقوا الإمامة إلى أن انتهوا بها إلى أبي جعفر المنصور، وذكروا أن الإمام إنما هو إله، وأن أرواح الأئمة تتناسخ من واحد إلى آخر”(العبيدي، 2017:109). 

    إن هذه الحوادث التاريخية ورغم استعمال بعضها للحجج الدينية في سبيل تبرير نظريتها للخلافة والثورة، إلا أنها تؤكد التحولات السياسية والنظرية حول مفاهيم السلطة كما جرى تمثلها في دار الإسلام. على سبيل المثال، إن الماوردي قد وضع أسس للخلافة منها: أنها تقوم على أهل الاختيار من جانب وأهل الإمامة من جانب آخر، إلا أن في ظل الدولة الأموية، وخصوصا في حالة يزيد بن معاوية، لم يكن هناك أهل اختيار، وإنما الأمر يشبه التوريث بواسطة الأب لأبنه. أيضا، فإن الثورة لم يعدها الماوردي عندما تحدث عن نظريته في الخلافة كوسيلة للسلطة، وذلك على الرغم من أنه عاش في العصر العباسي نفسه، والذي اعتمد فيه العباسيين على استعمال الدين وتبريرهم ثورتهم من خلاله للاستيلاء على الحكم من الأمويين.

    المراجع:

    أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، تحقيق أحمد مبارك البغدادي، الكويت، دار ابن قتيبة، 1989، الطبعة الأولى.

    أبوجعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، عمان، بيت الأفكار الدولية، 2009.

    عبدالملك بن حبيب السلمي الأندلسي، كتاب التاريخ، بيروت، المكتبة العصرية، 2008، الطبعة الأولى.

    محمود بشار العبيدي، موقف علماء أهل السنة من السلطة السياسية في العصر العباسي الأول، بيروت، دار ابن كثير، 2017، الطبعة الأولى. 

  • السياسة الشرعية عند ابن قيم الجوزية

     سنتطرق في هذا المقال لمفهوم السياسة الشرعية كما تحدث عنه ابن قيم الجوزية (691- 751). والذي وسم أحد  كتبه ب “الطرق الحكمية في السياسة الشرعية”. ويعتبر موضوع السياسة الشرعية من الموضوعات القديمة التي سبق أن تناظر حولها ابن عقيل (ت 513) وأحد الأمة الشافعية. حتى أن ابن القيم يورد في كتابه بعض من تلك التعريفات للمفهوم ويتخذ موقفا أقرب لابن عقيل في فهمه للسياسة الشرعية، وهو ما سنتعرض له لاحقا. 

    الحكم بالفراسة والأمارات:

    السؤال الأساسي الذي يفتتح به ابن القيم كتابه، ويعده سؤالا عظيم القدر، ويجب على الحاكم أن لا يهمله إن أراد إقامة الحق بين الناس، هو: هل يحكم الحاكم بالفراسة والقرائن التي يظهر بها الحق، والاستدلال بالأمارات، أم يقف مع مجرد ظواهر البينات والإقرار؟[1] إذ من المعروف أن مفهوم “الفراسة” والذي يعني “الاستدلال بالخَلقِ على الخُلُقِ، وذلك يكون بجودة القريحة، وحدة الخاطر، وصفاء الفكر”*، يعتبر من المفاهيم المختلف عليها عند الفقهاء في التاريخ الإسلامي. وإذا أردنا أن نفهمه بلغة معاصرة، فإنه أقرب إلى الاجتهاد والتأمل الذي تنتج عنه أحكاما مرتبطة بالزمن والواقع، وأبعد عن الاتباع الحرفي للنصوص والطرق التي سار عليها الحكام السابقين. وهذا بعينه ما يريدنا أن نفهمه ابن القيم في كتابه هذا، وذلك من خلال الأمثله المتعددة التي يتعرض لها. ونقيض ذلك، نجد أن ابن عقيل يتحدث عن وجوب الحكم بالأمارات الظاهرة، وينفي أن يكون حكما بالفراسة. اعتراض ابن القيم على هذا الرأي، هو أن الحاكم إذا اعتمد على ظواهر الأحكام ولم يلتفت إلى بواطنها، سيضيع حقوقا كثيرة، وسيحكم بما يعلم الناس بطلانه. لذلك فالظواهر وحدها لا تكفي لبناء الأحكام، بل لا بد من أن يكون الحاكم فقيه في كليات الأحكام، عبر معرفة دقيقة بالأمارات وتفرس فيها، تنتج عنه أحكاما واجبة لكنها غير منفصلة عن الواقع ولا تخالفه. إذ يكتب: “ههنا نوعان من الفقه، لا بد للحاكم منهما: فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس، يميز به بين الصادق والكاذب، والمحق والمبطل. ثم يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه على الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفا للواقع”[2]. وبالتالي، فإن ابن القيم يتحدث عن أمرين مهمين، هما: أولا؛ ضرورة المعرفة بالأحكام الكلية، وثانيا؛ إدراك الواقع الذي هو بالضرورة متغير ومتحول. والأهم من إدراك هذين الأمرين، هو ضرورة أن لا نخضع أحدهما للآخر، بالطريقة التي تجعل الواجب -الأحكام المعيارية- مفروضا على الواقع بشكل تعسفي. بمعنى آخر، إن الواجب لا يعتبر صالحا وعاما لمجرد أنه واجب، وإنما يستمد صلاحيته في إطار علاقة تنظر للواقع وتحولاته وتغيراته. وهنا يضع ابن القيم حدا لتلك المقولات التي تلزم الناس بالاتباع النصي للأحكام وضرورة تطبيقها على الواقع حتى وإن كانت مخالفة له، وتتعارض معه. وهذا هو جوهر السياسة العادلة كما يفهمها ابن القيم والتي يدافع عنها من داخل الشريعة وليس خارجها، إذ يكتب: “ومن له ذوق في الشريعة، واطلاع على كمالها وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأن لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح: تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من أحاط علما بمقاصدها ووضعها مواضعها وحَسُنَ فهمه فيها: لم يحتج إلى سياسة غيرها ألبتة”[3].

    وعلى الرغم من أنه لم يمنح “الشريعة” تعريفا دقيقا، إلا أنه يجعل غايتها هي العدل، وكل ما يحقق هذا العدل يعتبر شريعةً. إذ يوصفها في كتابه إعلام الموقعين: “إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله (ص)”[4]

    والسياسة بالنسبة إليه هي التي لا تخالف الشرع، وليس ما نطق به الشرع. وإذا ظهرت دلائل الحق، وأثبته العقل، فهذا عينه شرع الله ودينه. إذ لم يحصر الله تعالى دلائل الحق في نوع بعينه، ونتيجة ذلك؛ فإن أي طريق يؤدي للحق وجب الحكم به. لذلك نجد ابن القيم يدافع عن الاجتهاد في وجه الذي يقولون بالتقليد والنقل الحرفي عن السابقين. فالتقليد بالنسبة إليه ليس من لوازم  الشرع، وهو هنا يتحدث خصوصا عن التقليد المذموم “التقليد المنكر المذموم ليس من لوازم الشرع (…)، بل بطلانه وفساده من لوازم الشرع”[5]. ويتسأل معترضا على من يقولون أن التقليد من لوازم الشرع  “أين قال أصحابُ رسول الله للتابعين: لينضب كلٌّ منكم لنفسه رجلا يختاره فيقلده دينه ولا يلتفت إلى غيره، ولا يتلقى الأحكام من الكتاب والسنة، بل من تقليد الرجال!؟”[6].

    إن السياسة الشرعية العادلة بالنسبة لابن القيم توجب الاستدلال والاجتهاد إذ “لو كان التقليد من الدين لم يَجُز العدول عنه إلى الاجتهاد والاستدلال؛ لأنه يتضمن بطلانه”[7]. وبالتالي فإنه يرى أن الاجتهاد أحد الأسس الراسخة للدين، ومن يبطله يحكم على نفسه بالعمى. بالمقابل، فإن المتابعة والاقتداء هي التي تُعدّ من لوازم الشرع وليس تقليد آراء الرجال، يكتب: “المقصود أن الذي هو من لوازم الشرع المتابعةُ والاقتداءُ، وتقديم النصوص على آراء الرجال،  وتحكيم الكتاب والسنة في كل ما تَنَازع فيه العلماء، وأما الزهد في النصوص والاستغناء عنها بآراء الرجال وتقديمها عليها والإنكار على من جعل كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة نُصب عينيه وعرض أقوال العلماء عليها ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله وليجةً فبطلانه من لوازم الشرع، ولا يتم الدين إلا بإنكارِه وإبطالِه”[8]. فمنع التقليد والذي يدافع عنه ابن القيم هنا يعتبره طاعة لله ورسوله، وامتثالا لأوامره وتوجيهاته الواردة في القرآن والسنة. إذ يرى خطأ الرأي الذي يقول أن المقلد وعندما يقلد من هو أعلم منه، سيكون أقرب للصواب في حال اجتهاده. ويكتب ردا على ذلك “إذ بذل اجتهاده في معرفة الحق فإنه بين أمرين إما أن يظفر به فله أجران وإما أن يخطئه فله أجر، فهو مصيبٌ للأجر ولا بد، بخلاف المقلد المتعصب فإنه إن أصاب لم يُؤجر، وإن أخطأ لم يسلم من الإثم، فأين صواب الأعمى من صواب البصير الباذل جهده؟”[9]. أما عندما يقلد الحاكم، أو أي شخص من المسلمين، غيره من الأئمة والعلماء، مع علمه بأن الصواب هو عينه الذي فعله من يقلده، ففي هذه الحالة يقول ابن القيم “لا يكون مقلدا له، بل متبعا للحجة”[10]. إذ يصدر الأمر هنا عن اقتناع تفكري ذاتي وليس مجرد تقليدا أعمى.

    وفي إطار الاجتهاد نفسه، فإن الفراسة التي يتحدث عنه ابن القيم تجوّز للحاكم، الحكم بغير ما اعترف به المحكوم عليه. ويورد مثالا على ذلك قول النبي سليمان للمرأتين اللتين أدعتا الولد. إذ في هذه القصة حكم داود عليه السلام للكبرى بالولد، فقال سليمان “ائتوني بالسكين أشقه بينكما”، فوافقت الكبرى، ورفضت الصغرى، واعترفت بأن الابن للكبرى. وفي هذه الحالة “قضي به للصغرى”[11]. إذ على الرغم من اعترافها بأن الابن ليس ابنها، إلا أن موافقة الكبرى على شقه اعتبرت قرينة على أنها ليست أما للولد. كذلك، “قد حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة معه رضي الله عنهم برجم المرأة إذا ظهر بها الحبل، ولا زوج لها ولا سيد”[12]. كما حكم عمر ومعه ابن مسعود “بوجوب الحد برائحة الخمر من فيّ الرجل، أو قيئه له، اعتمادا على القرينة الظاهرة”[13]. ونتيجة ذلك، يمنح ابن القيم البينة تعريفا لا يحصرها في الاعتراف، أو الشهود، أو مجرد نقل الأحكام عن الحكام السابقين وإنما يعني بها: “اسم لكل ما يبين الحق ويظهره ومن خَصها بالشاهدين، أو الأربعة، أو الشاهد، لم يوف مسماها حقه. ولم تأت البينة قط في القرآن مرادا بها الشاهدان، وإنما أتت مرادا بها الحجة والدليل والبرهان، مفردة ومجموعة. وكذلك قول النبي (ص): “البينة على المدعي” والمراد به: أن عليه بيان ما يصحح دعواه ليحكم له، والشاهدان من البينة”[14]. ولا ريب أن تكون أشكالا أخرى من البينة -غير الشاهدان- أقوى وأكثر دلالة من إخبار الشاهد. بل وأبعد من ذلك فإنه يطابق بين البينة ومفاهيم أخرى ” البينة والدلالة والحجة والبرهان والآية والتبصرة والعلامة والأمارة: متقاربة في المعنى”[15]. فالشارع لم يلغي هذه الأشكال من الاستدلال والحجج ويورد ابن القيم حديث النبي الذي يقول فيه لجابر بن عبدالله الذي كان يريد السفر إلى خيبر “إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا، فإذا طلب منك آية، فضع يدك على ترقوته”[16]. يقول ابن القيم: “الشارع لم يلغ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال، بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وجده شاهدا لها بالاعتبار، مرتبا عليها الأحكام”[17]

    هذه المساحة التي تقرّ الحجة والاستدلال والتبصرة، والتي يسمح بها ابن القيم، تنتج عن ما يسميه بالفراسة. إذ نجده يكتب: “وقول أبي الوفاء ابن عقيل: (ليس هذا فراسة)، فيقال: ولا محذور في تسميته فراسة، فهي فراسة صادقة. ومدح الله سبحانه الفراسة وأهلها في مواضع من كتابه، فقال تعالى (إن في ذلك لأيات للمتوسمين) وهم المتفرسون”[18]. كما يختم بالحديث الشريف: “اتقوا فراسة المؤمن، فإن ينظر بنور الله، ثم قرأ (إن في ذلك لأيات للمتوسمين)”[19].

    ما السياسة؟

    إن السياسىة عند ابن القيم نوعان: الأول؛ سياسة ظالمة وهي التي تحرمها الشريعة، والثاني؛ سياسة عادلة وهي التي تخرج الحق من الظالم، وهي التي تضمنتها الشريعة وأكدت عليها. إن المعنى الذي يعطيه ابن القيم للشريعة، وكما تعرضنا له سابقا، يضمّن بداخلها كل الطرق التي تؤدي إلى إقامة العدل. لذلك لا يرى تعارضا بينها وبين السياسة العادلة. ويورد في إطار حديثه عن السياسة تعريفات عدة، قال بها من سبقوه من العلماء. ويكتب: “وقال ابن عقيل في الفنون: جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية: أنه هو الحزم، ولا يخلو من القول به إمام. فقال شافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع. فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول (ص)، ولا نزل به وحي. فإن أردت بقولك: (إلا ما وافق الشرع) أي لم يخالف ما نطق به الشرع: فصحيح. وإن أردت: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع، فغلط، وتغليط للصحابة. فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف، فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة، وتحريق علي -رضي الله عنه- الزنادقة في الأخاديد فقال: إني إذا شاهدت أمرا منكرا    أججت ناري ودعوت قنبرا”[20].

    بالنسبة لابن القيم هناك طوائف من العلماء، وفي إطار محاولة فهمهم للسياسة، توقفوا عند ظواهر الأحكام. وكانت النتيجة هي جعل الشريعة قاصرة عن تقديم حلولا يمكنها أن تؤكد وترسخ مصالح العباد. إن الشريعة وفقا لفهم هذه الطائفة محتاجة لغيرها في سبيل مواجهة المشكلات الناشئة، ولما رأي الناس ذلك، عطلوا أحكامها ولجأوا إلى القوانين الوضعية لمواجهة أزمات حاضرهم. ويقول ابن القيم أن هذا الفهم للشريعة يعود إلى “تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر”[21]. وهناك طائفة أخرى أفرطت ووسعت من مجالات السياسة الشرعية، مما أدى بهم ذلك إلى الوقوع في سوغ أحكام تخالف حكم الله ورسوله. ويرجع ابن القيم خطأ كلا الطائفتين إلى كونهما لم يعرفا بحق ما بعث الله به رسوله، ومن أجله أنزل كتبه. ويقول: “إن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات الحق وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة، فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق، أن مقصوده إقامةُ العدل بين عباده، وقيامُ الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له”[22]. وبالتالي فإن ابن القيم هنا يؤيد رأي ابن عقيل حول السياسة الشرعية، إذ يرفض أولا الجمود أمام الأحكام الشرعية واعتبارها قاصرة وناقصة، وفي الوقت نفسه لا يقول بأن السياسة العادلة هي فقط ما نطق به الشرع. بل كل ما يحقق العدل يعتبر عنده جزءا من أجزاء الدين. إن السياسة كما يكتب: “عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات”[23]. ويورد دليلا على ذلك، أن النبي عليه السلام حبس في تهمة وعاقب في تهمة، عندما ظهرت أمارات الريبة على المتهم، “فمن أطلق كل متهم وحلّفه وأخلى سبيله -مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض، وكثرة سرقاته، وقال: لا آخذه إلا بشاهدي عدل- فقوله مخالف للسياسة الشرعية”[24]. أيضا مما فعله النبي، والذي يضمنه ابن قيم تحت مفهوم السياسة الشرعية المرتبطة بمصلحة الأمة، أنه -النبي- “أمر بقتل شارب الخمر بعد الثالثة أو الرابعة، ولم ينسخ ذلك، ولم يجعله حدًّا لابد منه، بل هو بحسب المصلحة إلى رأي الإمام، ولذلك زاد عمر رضي الله عنه في الحد أربعين ونفي فيها”[25]. أيضا من الأمثلة التي يوردها ابن القيم، والتي يضمنها تحت مفهوم السياسة الشرعية التي يمكن أن يقرّها الحاكم، هو مثال حرق أبا بكر الصديق للوطية، إذ يقول: “أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- حرَّق اللوطية، وأذاقهم حر النار في الدنيا قبل الآخرة. وكذلك قال أصحابنا: إذا رأى الإمام تحريق اللوطي فله ذلك”[26]. والدلالة في هذه القصة، هو أن الحاكم يمكن أن يقرر ما يشاء من العقوبات التعزيزية، حتى وإن لم ينص على ذلك في الشرع، وإنما استنادا لمصلحة الأمة من غير أن يكون ذلك مناقضا للسياسة الشرعية.

    وهناك تطبيقات متعددة يوردها ابن القيم للسياسة الشرعية، وهي تطبيقات تغلّب جانب المصلحة من غير أن يُعدّ ذلك مناقضا للشريعة الإسلامية، ونورد منها مثال حكم قطع الأيدي في الحرب إذ يكتب: “أن النبي (ص) (نهى أن تُقطَع الأيدي في الغزو) فهذا حَدٌّ من حدود الله تعالى، وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغصبا”[27]. وبالتالي فالمصلحة هنا تقتضي تعطيل الحد على الرغم من تأكيد الشريعة وتنصيصها عليه، بل لا يختصر الأمر على حد قطع يد السارق فقط وإنما يشمل كل الحدود. ويورد ابن القيم الحديث التالي “وذكرها أبو القاسم الخرقي في (مختصره) فقال: ولا تقام الحدود على مسلم في أرض العدو”[28]. وبالنسبه إليه فإن اسقاط الحدود في هذه الحالة لا يخالف نصا ولا قاعدة من قواعد الشرع، “وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة إما من حاجة المسلمين إليه أو خوف من ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخير الحد لعارض أمرٌ وردت به الشريعة”[29]. وبالتالي فالفقيه، الذي لديه قدرة على تطبيق السياسة الشرعية العادلة، هو الذي ينفذ الواجب بحسب ما يستطيع، ولا يصنع عداوة بينه وبين الواقع، إذ لكل زمان حكم كما يوضح ابن القيم.

    قائمة المراجع:

    ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق نايف بن أحمد بن علي الحمد، الرياض، دار التدمرية، 2014، الطبعة الثالثة، المجلد الأول.

    ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق أبوعبيدة مشهور بن حسن آل سلمان (الدمام، دار ابن الجوزي، 1423)، الطبعة الأولى، المجلد الرابع.


    [1] ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق نايف بن أحمد بن علي الحمد، (الرياض، دار التدمرية، 2014)، الطبعة الثالثة، المجلد الأول، ص 3-4 

    *هذا التعريف للفراسة يورده محقق كتاب “الطرق الحكمية” وينسبه لابن العربي، في كتابه أحكام القرآن.

    [2]  ابن القيم الجوزية، الطرق الحكمية، مرجع سابق، ص7

    [3]  ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية، مرجع سابق، ص7

    [4]  ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق أبوعبيدة مشهور بن حسن آل سلمان (الدمام، دار ابن الجوزي، 1423)، الطبعة الأولى، المجلد الرابع، ص337

    [5]  المرجع نفسه، ص16

    [6]  المرجع نفسه، ص15

    [7] المرجع نفسه، ص16

    [8]  المرجع نفسه، ص17

    [9] ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، مرجع سابق، ص29

    [10] المرجع نفسه، ص29

    [11] ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية، مرجع سابق، ص8

    [12] المرجع نفسه، ص11

    [13] المرجع نفسه، ص12

    [14] المرجع نفسه، ص25-26

    [15] المرجع نفسه، 26

    [16] المرجع نفسه، 26-27

    [17] المرجع نفسه، 27

    [18] ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية، مرجع سابق، ص27

    [19] المرجع نفسه، ص28

    [20] المرجع نفسه، ص29-30

    [21] المرجع نفسه، ص31

    [22] المرجع نفسه، ص31

    [23] ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية، مرجع سابق، ص32

    [24] المرجع نفسه، ص32

    [25] المرجع نفسه، ص34-36

    [26] المرجع نفسه، ص38

    [27] ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، مرجع سابق، ص340

    [28] المرجع نفسه، ص341

    [29] المرجع نفسه، ص345